سعيد بن محمد الجحفلي
تعد الحكايات الشعبية من أكثر فنون الأدب تأثيرًا لشدة التصاقها بحياة الناس ولقوة حضور وقعها عن طريق الشفاهة؛ حيث يحشد الراوي أدواته في الحكي بأسلوب يستجمع فيه قدراته على الإثارة والتشويق للحادثة أو الموقف المختار، بهدف توجيه الناس إلى مكارم الأخلاق وتحذيرهم من مساوئ تعطيلها، والوقائع قد تتغير محاورها من راوٍ لآخر مع مرور الزمن.
ومن خلالها تحافظ المجتمعات على موروثها الشعبي من الاندثار، بالإضافة إلى أنها خلاصة تجارب الأجيال تمت صياغتها في قالب قصصي مشوّق زاخر بالعبر والقيم النبيلة؛ حيث تعكس ثقافة المجتمع، وتؤدي دورًا مهمًا في تنمية خيال الأطفال ونقل الأعراف والتقاليد الحميدة، وهي مصدر إلهام للإبداع وتشكيل الوعي. هنا سأسرد حكاية من التراث الشعبي كنت أسمعها وأنا صغير، ولا زالت متداولة لدى بعض كبار السن في ظفار إلى يومنا هذا، وفيها من العبر والمواقف ما يمكن أن نربطه بحياتنا اليومية وما نواجهه من تحديات.
يُحكى أن أسرة فقيرة كانت تعيش في أطراف المدينة مكونة من رجل وزوجته الطاعنين في السن وابن يقوم على رعايتهما. وفي إحدى الليالي رأى الابن رؤيا في المنام لملكٍ من السماء يخاطبه ويقول له: إن الله منح لكل فرد من أسرتك دعوة مستجابة واحدة. وفي الصباح قام الابن مسرورًا وأخبر والديه بالرؤيا الصالحة. وعلى الفور دعت الأم الله أن يعيد لها شبابها مثل ما كانت، فاستجاب الله لها، ورجعت شابة صغيرة مثل يوم زواجها، فقامت تتحسس نفسها غير مصدقة ما حصل، والزوج العجوز يرقبها من زاوية الدار بنظرات الشيب الراغبين في الزواج من النساء الصغيرات، ولكنهم غير واثقين من أنفسهم! ويقول في نفسه: هذه تشبه زوجتي أيام الشباب! لملمت الأم الشابة مقتنياتها وهمّت بالخروج من المنزل، فقام الزوج يسألها: إلى أين أنتِ ذاهبة؟ وكأنه في حلم! فقالت: لقد دعوت الله أن يعيد لي شبابي، وها أنا ذا شابة، ولن أعيش معك بعد اليوم. فغضب ودعا الله أن يمسخها كائنًا آخر؛ فاستجاب الله له وأصبحت ممسوخة بهيئة ذلك الكائن. قام الابن مذعورًا وقد هاله الموقف وقال: ماذا أفعل بدعوتي الوحيدة المستجابة؟ لو دعوت الله أن يغير حالنا من الفقر والعوز إلى الغنى، لظلت أمي كائنًا ممسوخًا بيننا، ولو دعوت الله أن تعود شابة صغيرة، فقد تتركنا وتغادر المنزل؛ فقرر أن يدعو الله أن تعود أمه كما كانت عجوزًا... خسرت الأسرة الغنيمة التي خصهم الله بها؛ وهي ثلاث دعوات مستجابة كفيلة بأن تغير حالهم إلى الأبد، ولكن الإدارة الجاهلة تضيع أي فرصة وتخسر أي وعد بالنجاة ولا تستفيد من فرص إمكاناتها وما فتحه الله لهم من منح وغنائم، فليس أضر من الجهل، وليس أضيع من الحسد وحب الانتقام.
هذه الحكاية بغض النظر عن مدى مصداقيتها، فإن حقيقة محتواها أن الفرصة إذا أقبلت غالبًا لا تمنحك الوقت الكافي للتجربة والخطأ، ولكنها تحتاج إلى قرار صائب لا مجال فيه لإعادة المحاولة أو التعلّم من التجربة. وهناك دروس يستنبطها القارئ الكريم من هذه الحكاية وغيرها من الحكايات الشعبية، حسب مفهومه واهتماماته. فعلى الصعيد الشخصي ستعود بنا الذاكرة إلى أن الجميع قد مرت عليه فرص كثيرة، وكان من السهولة بمكان الظفر بها لو اتخذ القرار الصحيح في الوقت الصحيح دون تردد.
ومن المعيقات الكبيرة التي تحول دون استثمار الفرص وتعظيم عوائدها الحسد والبخل، فكم من فرصٍ ضاعت على المستحقين بسبب حسد وبخل من يملكون اتخاذ القرار وإدارة مصالح الناس. فالمصاب بداء الحسد والبخل لا ينجح في عمله ولا يحقق إنجازات تُذكر، ويغادر المكان الذي يشغله مذمومًا مدحورًا.
وفي عالمنا العربي ما يزال معظم أبنائه يعيشون بعقلية القبلية والمناطقية المذمومة، فعطّلوا مقدّرات بلدانهم بسبب التباغض والتنافس المعيب، على سياق "أنا خيرٌ منه"؛ فيكون الولاء للقبيلة أكثر من البلد الذي يعيش فيه. وقد أفصح العرب قديمًا عن ذلك حين قال بعضهم: "كذّاب ربيعة أحب إلينا من صادق مُضر"؛ فبهذه العقلية حُرمت البلدان العربية على مدى عقود من استثمار مواهب وقدرات أبنائها الأكفاء، رغم أنها تمتلك موارد بشرية مبدعة يمكنها أن تحقق طفرات نوعية لأوطانها على كل الأصعدة.
وفي المقابل هناك دول من شرق آسيا إلى دولة رواندا في أدغال إفريقيا، مكّنت العنصر البشري المبدع من قيادة التنمية في بلدانها، فحققت معجزات اقتصادية رغم افتقارها إلى الموارد الطبيعية. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان".
عندما نتمعّن في الحديث الشريف، نجد أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حثنا على بذل أقصى ما لدينا من جهد وعزيمة لتحقيق أعلى المراتب فيما نسعى إليه في الدنيا والآخرة، ونهى عن العجز والتسويف والتواكل، وكان دائمًا يستعيذ بالله من "العجز والكسل" لما لهما من نتائج كارثية على حاضر ومستقبل الإنسان. والمسلم عندما يستفرغ كل ما لديه من وسائل ومحاولات لتحقيق هدف ما، ولم يتحقق له ذلك الهدف، عندئذٍ لا ينبغي استعمال "لو" لمعارضة القدر؛ بل يجب التسليم والصبر والاحتساب. قال تعالى ذامًا المنافقين: "يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا" (آل عمران: 154).
إذن أقدار الله ماضية وأمره نافذ، وإنما شرع الأسباب لحكمة قد نجهل بعض مقاصدها.
لنعد إلى أنفسنا ونتخطى جلد الذات على ما فات من القرارات غير الموفقة، ولنبدأ الحياة من جديد كما قال الكاتب الأمريكي ديل كارنيجي في كتابه الشهير دع القلق وابدأ الحياة؛ حيث يُقدِّم للقارئ مجموعة من النصائح والأفكار العملية للتغلب على القلق والتوتر، وتحقيق حياة أكثر سعادة وسلامًا من خلال العيش في الحاضر، والنظر للحياة بطريقة مبسطة وإيجابية. ويعد هذا الكتاب من أهم الكتب التي ساعدت الملايين حول العالم على تخطي نوبات القلق والاكتئاب. ولكن المؤمن التقي دائمًا متسلح بالإيمان لمواجهة وساوس النفس والشيطان، والرضى التام بتدابير القدر.
وفي هذا السياق، في كيفية استغلال الفرص، سيشعر العرب دائمًا أن خذلان غزة أمام الإبادة الجماعية الصهيونية كان خطأ استراتيجيًا، بعد أن أظهرت المقاومة الفلسطينية عوار الكيان وفضحت زيف أسطورة جيشه الذي لا يُقهر؛ حيث اعترف كبار قادته أنهم مُنوا بهزيمة نكراء في السابع من أكتوبر 2023، وأنهم أُصيبوا بصدمة وخيبة أمل لاختراق منظومتهم الأمنية.
يقول الكاتب الصحفي الراحل محمد حسنين هيكل: "إسرائيل لا تستطيع أن تتحمل هزيمة كبيرة واحدة، يعني ذلك انتهاء المشروع، لأنها قائمة على فكرة التمسك بالأرض. فإذا نُزعت مهابة قدرة إسرائيل على الردع وإخافة من حولها، فقد انتهى وجود الدولة، وإن ظل لها وجود على الأرض". وهذا يعني أن الكيان الذي زُرع في قلب الأمة العربية كخلية سرطانية لتتمدد وتنتشر قد تعرض لجرعة كيماوية مركّزة من قبل المقاومة، أفقدته تمسكه بالأرض، وخير دليل الهجرة العكسية، ناهيك عن التمدد والانتشار. ولكن إطباق الحصار ومطالبة إسرائيل بنزع سلاح المقاومة يخفف من مفعول الهزيمة الذي تعرض له الكيان الغاصب من المقاومة، ويجعله ينشط ويتمدد وفق المشروع "الصهيو-أمريكي" الذي يهدف إلى احتلال المزيد من أراضي الدول العربية، حسب تصريحات الرئيس ترامب الذي قال: "إن دولة إسرائيل مساحتها صغيرة ويجب أن تتوسع".
الآن العرب أمام خيارين لا ثالث لهما؛ إما إنقاذ ما يمكن إنقاذه من غزة وإنقاذ أنفسهم، أو إنقاذ إسرائيل لتكشّر أنيابها عليهم بتمددها وهيمنتها التامة على المنطقة.